بـــلا أي مـعـنى

زياد بركات - قاص وروائي وصحفي

كتب زياد بركات – قاص وروائي وصحفي فلسطيني/أردني

عشت في الدوحة رُبع قرن ولم أعرف أين يُدفن الموتى هناك. كنت أسمعهم يقولون إنهم يُدفنون في “أبو هامور” أو في “مسيمير”، ولكنني لم أعرف أين هي منطقة أبو هامور بالضبط، ولم أُعن بذلك، فلا موتى لي هناك. وكان لي مشواران إلى مسيمير لأمور تتعلق بتغيير صورة في بطاقة الإقامة، فهل كانت المقبرة تختبئ خلف ذلك المبنى الحكومي؟ لا أعرف، لكن ما أعرفه أن أحدهم قالها أمامي ذات مرة بأنه لا يريد أن يُدفن في أبو هامور إذا مات. قال إن المقبرة موحشة. قالها وهو خائف. قالها وهو يعرف ربما دون أن يُدرك أن مكان الدفن بوابته للعبور، وأنه يريد أن ينتقي بوابته، وربما كان ذلك حق أصيل له.

وفكرت أن أكتب رواية عن الدفن في أبو هامور. لا نعرف الكثير عن الميت بل عن رحلة جثمانه من مستشفى في الدوحة إلى أبو هامور. فقط عن رحلة الجثمان ووصف لاهث ومضطرب للطريق والأماكن التي يعبرها، لكنني اكتشفت أنني لا أعرف أبو هامور، وأنت لا تستطيع أن تنشئ معماراً كاملاً من دون معرفة بعض التفاصيل الصغيرة، فقد ينهار النص فوق رأسك لسبب تافه هو أنك لا تعرف أين تقع أبو هامور، وأنت لا تعرفها ولا تعرف أين تقع “دُخان” في قطر أو “جبل الزهور” في عمان أو “دوار سال” في إربد. أنت لا تعرف حتى أن تصف لعامل توصيل الطعام أين يقع بيتك حالياً في عمان، فتكتفي بإرسال اللوكيشن له على الواتس آب. تعرف اسم المنطقة واسم الشارع ورقم البناية والطابق والشقة ولكنك لا تعرف ذلك فعلياً لو عدت مشياً أو قدت السيارة لوحدك، وتريدني أن أعرف أبو هامور بل وأكتب رواية عنها؟!!

يعرف الحمار طريقه بين القرى. يسير بين الجبال وفي طرق ضيقة. وتعرف القطط طريقها إلى البيت. تترك روائحها هناك في أكثر من زاوية. تبول وتتشمم، فإذا ابتعدت عن البيت تعود، وحين كنا صغاراً كان أهلونا يطلبون منا أن نضع القطط في كيس من الخيش والسير بها حتى آخر المخيم للتخلص من مشاركتها لنا في الطعام القليل، وعندما كنا نفعل كنا نفاجأ بها وقد سبقتنا إلى البيت: أنا لست حماراً ولا قطاً بل رجل أحمق توقفت ذاكرته المكانية عند شوارع بعينها في مرحلة ما فإذا تغيرت الشوارع غرق في شبر ماء.

هل يغرق المرؤ في شبر ماء؟ نعم، فأنا كدت أغرق في البحر الميت، ولا أظن أنني المقصود في أغنية فيروز “لا انت حبيبي ولا ربينا سوا”، رغم أن المعنى واضح فأنت لم تكبر مع الشوارع نفسها. كبرت أنت دون أن تتغير ملامحك الأصلية بينما تغيّرت الشوارع تماماً وكثيرها اختفى. وبمناسبة فيروز فلها أغنية أنا لحبيبي وحبيبي إلي، وكلماتها مأخوذة من نشيد الإنشاد وبتأثير طاغ منه، وهو نص فاتن ذهب بعض الأنثروبولجيين إلى أنه هو نفسه مقتبس بل مسروق من نصوص فرعونية أو بابلية سبقته بقرون. ماذا أريد أن أقول؟!

أنا أحمق مثل دون كيشوت، بل أكثر منه، لا بل أنا أكثر حماقة ممن يفوقون دون كيشوت في الحمق بعدة مراحل.

وأنا غاضب، غاضب جداً من الحياة والموت، من البشر والحيوانات والطيور، ودعك من الزواحف فهي لا تستحق، ومن الشوارع والسيارات والصيف والخريف والربيع، وأستثني الشتاء لأسباب شخصية.

ذات مرة شاهدت فيلماً لروبن ويليامز (الرجل الأكثر غضباً في بروكلين) فأخذت أضحك، وهل هذا يسمى غضباً، إنه مجرد مزحة مقارنة مع غضبي، أنا الأحمق الذي يريد أن يظل غاضباً لأن الحياة خذلته وهو لا يحب الخذلان.

،،،

بلا أي معنى كالعادة

الرابط المختصر: https://msheireb.co/70n