من يملك الآخر: الهاتف أم مالكه؟
بقلم مصطفى البقالي
ذاك سؤال لم نطرحه بجدّية بعد، وربما لم يعد في وسعنا طرحه. لقد مررنا ونحن نحدّق في هواتفنا، من لحظة ساذجة كان فيها التفاعل فعلا إنسانيا إلى طور صار فيه التفاعل ذاته مشكوكا في إنسانيته. أصبحنا نعيش في منطقة رمادية حيث لا شيء يُسمّى “خارج الشاشة” إلا بما تُعيد المنصة تشكيله وفق خوارزمياتها.
تحوّل الإنسان في هذا الفضاء، من ذات متأملة إلى ذات “على مقاس الشاشة”، من شخص يبحث عن المعنى إلى مجرد “بروفايل” يسعى لالتقاط “اللايكات”، ومن مخلوق “مخيَّر” إلى كائن غارق في وهم القدرة على اتخاذ القرارات، رغم أنه في الحقيقة مراقَب على نحو يجعله في أفضل حالاته يختار قيوده بحرية كاملة.
داخل هذا المشهد المعقد، جاءت محاضرة مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات المفكّر د. عزمي بشارة في مؤتمر “وسائط التواصل الاجتماعي: جدلية تدفق المعلومات وحرية التعبير والمراقبة والسيطرة” ليقول ما لم يُقَل بوضوح في النقاش العربي حول الواقع الرقمي: أن ما نعيشه لا ينفصل عن واقعٍ سياسي وثقافي واحد، وقد تداخلت فيه التقنيات مع المعاش اليومي إلى حدّ يصعب فصلهما.
استطاعت المحاضرة مساءلة هذا الخطاب من الداخل، بوصفه بناء لغويا وسياسيا يستتر خلف حياد تكنولوجي زائف، موجهة نقدا عميقا للخطاب الإعلامي الغربي حول “الواقع الافتراضي”.
المحور الأول: الواقع “الافتراضي” كمجاز فاسد
ليس هناك شيء “لا تحتمل خفته” أكثر من المجاز حين يتحوّل إلى مأوى للكسل المعرفي. ولعلّنا في هذا السياق، أمام أحد أكثر المجازات رواجا وفسادا: “الواقع الافتراضي”.
مصطلحٌ يُستخدم ببساطة مدهشة، كأنّه توصيف تقني بريء، بينما هو في جوهره مجاز مخرّب، يُفرّغ الفعل الإنساني من واقعيته، ويصوغ العالم الرقمي بوصفه “وهما أنيقا” يعيش خارج شروط التاريخ والسلطة.
لكن عزمي بشارة، بصرامة المفكر الذي يدقق في المصطلح، ينتزع هذا المجاز من عرشه وينتزع عنه هالة الوضوح الزائف التي اكتسبها من شيوعه وتكراره.
يرفض فكرة أن المنصات فضاء موازٍ، أو كينونة قائمة بذاتها: لا وجود لواقع ثانٍ، هناك فقط تكثيف لحضور الإنسان داخل البنى السياسية والثقافية والاقتصادية التي لم تغادره يوما. ما يحدث على الشاشة ليس “بعيدا عن الواقع”، وهو الواقع نفسه وقد انعكس في مرآة معتمة، تُضيف عليه ضوءا خادعا وتخطف تفاصيله في الوقت ذاته. هنا لا تُقلقه التقنية بقدر ما تُقلقه اللغة التي تُغرق المعنى في تعويم غير بريء.
يُنقّب بشارة في اللغة، ليقول: إن الكلمة تصنع الوعي، وإن ترجمة Virtual إلى “افتراضي” ليست فقط خطأ لغويا، إنها انزلاق معرفي كامل. ذلك أن الكلمة في أصلها اللاتيني -Virtus- تدل على “القدرة الكامنة”، على ما هو “فعلي في طاقته، محتمل في تحققه”، لا ما هو موهوم أو متخيل.
وهنا يفترق بشارة عن منطق التهويل الذي وقعت فيه طروحات بودريار، الذي رأى في الإعلام واقعا مفرطا (hyperreality) يبتلع المرجع. بشارة يُعيد الواقع إلى مساحته الأصلية، بعد أن ابتلعته أوهام التمثيل.
تنبض المحاضرة بما هو أعمق من مجرد إعادة تعريف واقعنا الرقمي. إنها تدعونا إلى الوقوف عند حافة السؤال: أي لغة تسكننا حقا؟ وأي مفاهيم تمسك بزمام وعينا في غفلة منا؟
كم مرة توقفنا لنتأمل الكلمات التي نتنفسها يوميا؟ كم مرة أصغينا إلى صوت اللغة في لحظات تعثرها، حين تخفي وراء بريقها اللغوي فراغا معرفيا لا قاع له؟
المجاز.. هذا الكائن الخفي يتسلل إلى وعينا دون استئذان. نتركه يمر، فيصير أداة تُخدر حساسيتنا تجاه الحقيقة. لكن الفكر، الفكر الذي يرفض الاستسلام، يقف له بالمرصاد. يعرِّيه من غموضه المتعمد، ليكشف أن ما يخفيه التكرار ليس سوى خوفنا الدفين من مواجهة الأشياء بوجهها الحقيقي.
المحور الثاني: المنصة كآلة أيديولوجية رأسمالية
المراقبة هنا لا تبرز كعقوبة، وإنما تنساب ضمن نسيج التصميم، مألوفة في شكلها، لكنها محمّلة بوظائف دقيقة تُعيد تشكيل السلوك دون ضجيج.
المراقبة لم تعد فعلا خارجيا يُفرض، ولا سلطة تُلوّح من أعلى.. هي خيط رفيع يُنسج بهدوء في تفاصيل الاستخدام اليومي، في تصميم الواجهة، في سرعة التمرير، وفي توقيت الإشعار.
ما من أمر يُطلب صراحة، ومع ذلك يتدفّق كل شيء من المستخدم، كأنما يقدّم ذاته على مراحل: رغبة رغبة، حركة حركة، تردّدا خلف تفاعل. وما يُمنح تحت مسمّى الحرية لا يفتح الطريق، بل يوسّع القالب. تتّسع الخيارات، ويضيق الهامش.
كلما طال البقاء أمام الشاشة، انحنت الذات قليلا نحو الصيغة المطلوبة منها، فتتبدّل من الداخل، بلا عنف ظاهر، وبلا إكراه مُعلن.
لم يعد من حاجة لعينٍ ترصد من خارج. النظر أصبح داخليا: المستخدم يراجع ما كتب، ويختار كلماته كما يختار ملامحه في مرآة مؤقتة.
لا أحد يملي عليه، لكن الكلّ حاضر في ذهنه: من يتابع، من يتوقّع، من ينتظر ما يشبهه. الأمر يشبه صحبة يومية لا ننتبه لها. تمشي معنا بين التفاصيل، في إعجاب لا يُرسل اعتباطًا، في تعليق يمرّ عبر رقابة داخلية غير مرئية، في سلوك يتكشّف وهو يُعاد ترتيبه وفق إيقاعٍ لا يُعلن عن نفسه.
القرارات الصغيرة- متى نكتب، كيف نُصوّر، أي زاوية نُظهر، وما نسمح له بالوصول- كلها تتحوّل إلى إشارات خفية على شكل انضباط ناعم. السلطة لا تلوّح بوجهها، لكنها تتسرّب إلى النبرة، إلى اختيار الكلمات، إلى طريقة الجملة حين تُصاغ. والرغبة، في هذا السياق تُعاد هندستها لتُناسب الإيقاع العام.
في مقاربة عزمي بشارة، التقنية ليست أداة خارجية ولا وسيطا صامتا. هي بيئة تتحرّك فيها اللغة، وتنعقد فيها شبكات التأثير. وداخل هذه البنية، يُعاد ترتيب الإدراك والسلوك، من خلال ما يتسرّب إلى الكتابة قبل أن تصل إلى الصفحة. وما يُكتب، وما يعدم قبل أن يُكتب، كلاهما جزء من هذا التشكّل. والسياسة لم تخرج من الشاشة، كما خُيّل للبعض: هي فقط أعادت تشكيل حضورها داخلها، بهيئة خفية لكنها فاعلة.
إن ما يفعله بشارة هنا لا يُختزل في توصيف “من يتحكم في من؟”، لأن ما يقوم به تشخيص لكيف تُخلق الذات الجديدة في ظل “اقتصاد الانتباه” (Attention economy)، وكيف يُعاد توجيه حسّنا الأخلاقي والجمالي والمعرفي لنصبح أكثر طواعية، وأقل وعيا. المنصة الرقمية بهذا المعنى، ليست مجرد أداة، لأننا أمام بيئة كاملة تُعيد إنتاجنا على مهل.
المحور الثالث: مأساة البوح والاستعراض
ما الذي يدفع إنسان اليوم إلى مشاركة كل شيء؟ أن يصوّر وجبة فطوره، وأن يكتب عن حزنٍ لم ينضج، وأن يبوح بما لا يُقال؟
يبدأ عزمي بشارة من هذا السؤال دون أن يصوغه، فيكتفي بأن يُضيء مسرح البوح، ويترك لنا مهمة تأمل الممثلين.
يُشخّص بشارة ظاهرة الإنسان الرقمي بوصفه كائنا بوّاحا فضوليا. بوّاحٌ حدّ التعرّي، فضوليّ حدّ التلصص. كلاهما -البوح والفضول- يُحرّكان بعضهما البعض في حلقة جهنمية: فكلما باحت الذات بشيء، تزايد فضول الآخرين، وكلما ازداد فضولهم، اندفعت الذات أكثر نحو البوح، كأنما الوجود لا يُثبت إلا إذا وُثّق، وكأن القيمة لا تُكتسب إلا إذا نالت تفاعلا.
الصدق لم يعد شرطا للبوح، ولا الفضول وسيلة للمعرفة. ما يُحرّك السرد هو ردّ الفعل، وما ينتظرنا في الطرف الآخر نقرة إعجاب أكثر من فهم الفكرة.
والخطورة لا تكمن في ظهور الذات، لكن في الطريقة التي تفرغ بها المنصة هذه الذات من داخلها، لتُعيد ملأها بمحتوى لا يصدر عنها. في هذا المناخ، تتآكل الفضائل التي تجعل الحياة قابلة للعيش: اللباقة، الرصانة، الحياء.
والمفارقة أن هذه الفضائل، التي نشأت لحماية الحميمي من الاستباحة، تُصبح اليوم عقبة أمام “الوصول” أو “Reach”، فتُسحب واحدة تلو الأخرى، وتُستبدل بسلوك استعراضي يخلط بين الجرأة والسطحية.
بشارة يلتقط هذا التحول دون أن ينزلق إلى اللغة الأخلاقية المباشرة. لا يقول إن البوح خطأ، ولا يدين الفضول، فقط يُظهر كيف تتحول كلاهما إلى أدوات تصنيع للذات حسب شروط السوق. وهنا يظهر الفرق بين الاعتراف كفعل إنساني والاستعراض كآلية إنتاج رقمي.
إذ في ظل هذا الانكشاف الدائم، تضيع الفروق بين الخاص والعام، وبين الداخل والخارج.. وحتى الألم -وهو آخر حصون الذات- صار مادة مشاركة.
أما الخوف من النسيان فصار أكبر من الخوف من الفقد. وصار السؤال ليس: “من أنا؟”، بل “كيف أبدو؟”
وفي غمرة هذا، يفقد الإنسان شيئا فاصلا: المسافة بين الشعور والتعبير.
وهي المسافة التي يُولد فيها الشعر، ويتكوّن فيها الفكر، ويُعاد فيها تشكيل الكرامة.
لهذا، فإن أحد أعقد التحديات التي ترصدها مقاربة بشارة، هو الامتناع عن البوح، بدافع الحفاظ على الذات من أن تُستهلك قبل أن تُفهم.
المحور الرابع: المعرفة كنزعٍ للسحر
تأتي مقاربة عزمي بشارة لتنتزع القناع وتقول لنا بوضوح المفكرين الكبار:
لا شيء بريء في هذا العالم، ولا حتى التكنولوجيا، في عالمٍ صار فيه كل ما هو تقني يبدو حتميا. يُعيد بشارة الاعتبار لفعلٍ فلسفي جوهري: نزع السحر.. تُمارَس هذه العملية بوصفها معرفة تمسّ الجذر، إذ تعمل على تفكيك المسلّمات والاستعارات التي تكتسي بطلاء تقني محايد، وتعيد الكشف عنها باعتبارها أدوات مقيّدة بالسياقات التي نشأت فيها، ومحكومة بقيم وسُلطات تتخفّى داخل شكلها.
يرى بشارة في المنصة الرقمية نظاما ينتج المعنى كما يُعيد إنتاج السلوك، بعيدا عن فكرة الوسيط المحايد. إذ تصبح التقنية في تحليله موضعا سياسيا وثقافيا لا يمكن فصله عن بنيته المهيمنة. إنها معركة فكرية قبل أن تكون سياسية، لأن من يُسلم بحياد التقنية، يُسلم ضمنا بعدم حاجته لتحليلها، وهذا ما يرفضه بشارة جذريا.
يقدَّم الذكاء الاصطناعي في هذا السياق كمجالٍ لإعادة التفكير في ماهية الذكاء نفسه. ومن منظور بشارة، الذكاء البشري يتجاوز اختبارات الحساب،إلى القدرة على مساءلة المُسلّم به، وعلى فتح النوافذ المغلقة في وجه العادي.
يعيد بشارة في هذا المستوى، موقع الفكر العربي إلى قلب المشهد العالمي، حين يتتبّع التحولات التي تعيد تشكيل علاقتنا بالتقنية والمعرفة والمجال العام. فالمسألة لا تتعلق برفض ما هو قائم أو الانخراط فيه، وإنما في الإصغاء لما يتكوّن تحت السطح، وتتبّع الفارق بين ما يُقدَّم كواقع، وما يُفرض كبنية مهيمنة.
ومن بين الرسائل التي تبرز بوضوح، هي أن الفكر ممارسة يومية تتيح للذات أن تحيا بقدرٍ من الانتباه، وسط إيقاعٍ سريع يُغري بالنسيان وترفا مؤجّلا. ففي زمن “الترند”، تكون القدرة على التوقف، وعلى التأمل، وعلى النقد.. فعل مقاومة.
ما يُقال عندما تتكلم الأفكار بوضوح
حين نغادر ضجيج المنصات وأوهام الارتباط الدائم، تتبقى أسئلة بدون إجابة:
أي صورة للذات نعيد إنتاجها كل يوم؟ وما الثمن الذي ندفعه حين نختصر وجودنا في واجهة رقمية؟
في ملاحظات د. عزمي بشارة، يتكشّف البناء العميق للظواهر، كما لو أنه يعيد وصلها بشبكة السياسة والثقافة والاقتصاد، من دون استعجال، ومن دون استعارات نهائية.
ففي زمنٍ تتآكل فيه القدرة على التأمل، تمنحنا هذه المحاضرة فرصة نادرة للتفكير في التقنية، كما في أنفسنا حين نُصغي لما تفعله بنا من دون أن ترفع صوتها.