أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم عن منح جائزة نوبل في الكيمياء إلى ثلاثة من رواد العلم، وهم: عمر ياغي، وسوسومو كيتاغاوا، وريتشارد روبسون، تقديرا لجهودهم في تطوير الأطر الفلزية العضوية (MOFs).
ولم تكن هذه الجائزة مجرد تكريم، بل كانت اعترافا رسميا ببروز نموذج علمي جديد في الكيمياء، وهو مجال أسسه ياغي بنفسه وأطلق عليه اسم “الكيمياء الشبكية” (Reticular Chemistry).
المولد والأصول
وُلد البروفيسور عمر مؤنس ياغي في 9 فبراير 1965 في العاصمة الأردنية عمان. وهو من أصل فلسطيني، حيث لجأ والداه، مؤنس وصديقة، من فلسطين إلى الأردن في عام 1948.
تشكل هذه الخلفية كلاجئ عنصرا أساسيا في هويته وقصته، حيث أثرت بعمق في نظرته للعالم والتحديات التي يواجهها.
حياة من المشقة
عاشت عائلة ياغي في فقر مدقع. كان عمر السادس من بين عشرة أبناء، وعاشت الأسرة بأكملها في غرفة واحدة.
كان المنزل يفتقر إلى الكهرباء، وكانت المياه النظيفة سلعة نادرة ومقننة، لا تتوفر إلا لساعات قليلة كل أسبوع. هذه التجربة اليومية المباشرة مع ندرة المياه ستصبح فيما بعد النبع النفسي والفكري الذي غذى هوسه العلمي بابتكار طريقة لحصاد المياه من الهواء. كان والده يربي الماشية ويمتلك محلاً للجزارة في عمان.
إن العلاقة بين تجارب طفولة ياغي وأبرز إنجازاته العلمية ليست مجرد مصادفة، بل هي علاقة سببية مباشرة. فالطفل الذي كان ينتظر في طوابير للحصول على حصة أسبوعية من الماء في عمان هو نفسه الرجل الذي اخترع لاحقا طريقة لاستخلاص الماء النقي من هواء الصحراء القاحل.
شرارة الكيمياء
على الرغم من أن أسرته كانت بالكاد تعرف القراءة والكتابة، إلا أن والده كان يؤمن إيمانا عميقا بأن التعليم هو السبيل إلى حياة أفضل.
اشتعل شغف ياغي بالكيمياء في سن العاشرة عندما عثر على رسومات جزيئية في كتاب بمكتبة المدرسة. وصف هذا الاكتشاف بأنه وقع في حب الجزيئات واكتشف “لغة سرية لبناء الكون”، وهو نداء داخلي حدد مسار حياته. هذا الانبهار المبكر بالبنى الجزيئية وضع الأساس المباشر لاهتمامه اللاحق بالكيمياء الشبكية.
قرار الهجرة
في سن الخامسة عشرة، وبتشجيع من والده، اتخذ ياغي قرارا مصيريا بالانتقال إلى الولايات المتحدة لمتابعة تعليمه العالي، وهو مسار لم يغير حياته فحسب، بل غيّر مجرى الكيمياء الحديثة أيضا.
إن رؤية والده، الذي كان يعمل جزارا بسيطا، كانت عاملا حاسما في نجاحه. فهذا القرار، الذي تضمن إرسال ابنه المراهق بمفرده إلى بلد غريب، كان بمثابة تضحية وإيمان عميق بقوة التعليم كقوة تحويلية، وهو ما شكل حجر الزاوية في مسيرة ياغي الاستثنائية.
الوصول والتعليم المبكر
- وصل ياغي إلى مدينة تروي بولاية نيويورك، وهو في الخامسة عشرة من عمره وحيدا وبإلمام ضعيف باللغة الإنجليزية.
- بدأ رحلته الأكاديمية في كلية مجتمع هدسون فالي (Hudson Valley Community College)، حيث التحق بدورات تأسيسية في اللغة الإنجليزية والرياضيات والعلوم.
- كان يعيل نفسه من خلال أعمال متواضعة مثل تعبئة أكياس البقالة ومسح الأرضيات.
الدراسات الجامعية والدكتوراه
- انتقل ياغي بعد ذلك إلى جامعة ولاية نيويورك (SUNY) في ألباني، حيث تخرج بدرجة البكالوريوس في الكيمياء عام 1985.
- تابع دراساته العليا في جامعة إلينوي في أوربانا-شامبين، وحصل منها على درجة الدكتوراه في الكيمياء عام 1990 تحت إشراف البروفيسور والتر جي. كليمبيرير.
- خلال فترة الدكتوراه، بدأ ياغي في التصدي لتحدي تصميم المواد بدقة، ساعيا لتجاوز النهج التقليدي الذي وصفه مازحا بـ “الخلط والخبز” (shake and bake).
زمالة ما بعد الدكتوراه في هارفارد
- بعد حصوله على الدكتوراه، مُنح زمالة مرموقة من مؤسسة العلوم الوطنية (NSF) لمرحلة ما بعد الدكتوراه في جامعة هارفارد من عام 1990 إلى 1992.
- عمل مع البروفيسور ريتشارد هولم. هذه الفترة رسخت مكانته وصقلت مهاراته في أعلى مستويات الأوساط الأكاديمية الأمريكية.
مسيرة في الأوساط الأكاديمية
عندما واجه ياغي خيارا بين وظيفة مربحة في القطاع الصناعي والحرية الفكرية في الأوساط الأكاديمية، اختار الأخيرة. إذ كان مدفوعا برغبة قوية في بناء مختبره الخاص، ومتابعة أفكاره، وتوجيه الطلاب، وهو شغف فاق الاعتبارات المالية.
كان هذا القرار نقطة تحول حاسمة، حيث أتاح له المساحة اللازمة لتطوير الأفكار غير التقليدية التي أصبحت فيما بعد أساس الكيمياء الشبكية.
مشكلة “الخلط والخبز”
قبل عمل ياغي، كانت عملية تصنيع المواد الجديدة تفتقر إلى الدقة والقدرة على التنبؤ. كانت أشبه بعملية وصفها هو نفسه بـ “الخلط والخبز”، والتي كانت غالبا ما تؤدي إلى إنتاج مواد صلبة غير متبلورة أو ذات بلورية ضعيفة. كان حلم تصميم وبناء المواد بدقة ذرية، مثل استخدام مكعبات الليغو ، هدفا قديما ولكن بعيد المنال في الكيمياء.
تأسيس مجال جديد
كان ياغي هو من أسس وأطلق اسم “الكيمياء الشبكية” على هذا المجال الجديد. ويعرّفها بأنها “عملية تشبيك الوحدات البنائية الجزيئية في هياكل ممتدة باستخدام روابط قوية”.
هذا المفهوم، الذي وُلد في أوائل التسعينيات، كان يُعتبر في البداية غير ممكن كيميائيا من قبل الكثيرين في المجتمع العلمي.
المبادئ الأساسية
تقوم الكيمياء الشبكية على ثلاثة مبادئ أساسية :
- الوحدات البنائية الجزيئية: استخدام جزيئات محددة جيداً (عضوية وغير عضوية) ذات أشكال هندسية معينة كوحدات أساسية للبناء.
- الروابط القوية: ربط هذه الوحدات بروابط تساهمية أو تناسقية متينة، مما يمنح الهيكل الناتج استقراراً استثنائياً (حرارياً وكيميائياً ومعمارياً). كان هذا تحولاً جذرياً عن الروابط الضعيفة المستخدمة في بوليمرات التناسق السابقة، والتي كانت هشة وغير مستقرة.
- البلورية والمسامية: تحقيق هياكل بلورية عالية التنظيم ذات مسام دائمة ومتاحة، مما يسمح بالتصميم المنطقي للمواد ذات الوظائف المحددة.
الإنجاز الثوري
في عام 1995، حقق فريق ياغي إنجازا ثوريا، حيث نجح في تكوين هياكل فلزية عضوية بلورية ومستقرة ترتبط ببعضها البعض بروابط قوية.
كان هذا الاكتشاف هو “الشرارة التي أشعلت هذا المجال”، وأثبت أنه يمكن تخيل مجموعة لا حصر لها من الهياكل المسامية ومن ثم تصنيعها في المختبر. لقد كان نجاحه تحديا مباشرا للعقيدة العلمية السائدة آنذاك، والتي كانت ترى أن الروابط القوية ستؤدي حتما إلى مواد غير منظمة وعديمة الفائدة.
الإلهام
مدفوعا بذكريات طفولته عن ندرة المياه، ركز ياغي على ابتكار مادة يمكنها التقاط الماء من الهواء، حتى في ظل الرطوبة المنخفضة جدا.
كان مفتاح الحل هو إطار فلزي عضوي يمكنه امتزاز الماء في درجات حرارة منخفضة (ليلا) وإطلاقه بتسخين طفيف من ضوء الشمس المحيط (نهارا).
هذا النهج أكثر كفاءة في استخدام الطاقة بكثير من مزيلات الرطوبة التقليدية أو الزيوليت، التي تتطلب درجات حرارة عالية أو تبريدا.
تطوير الأجهزة والاختبارات الميدانية
طور فريق ياغي عدة أجيال من أجهزة حصاد المياه التي تعمل بالطاقة الشمسية.
- ظهر أول نموذج أولي في عام 2017.
- أجريت اختبارات ميدانية في بيئات قاسية، بما في ذلك صحراء أريزونا ووادي الموت في كاليفورنيا – أحد أكثر الأماكن جفافا على وجه الأرض.
- أنتجت النسخة الأحدث، التي تستخدم مادة MOF-303، مياهاً نقية بشكل موثوق حتى عندما انخفضت الرطوبة النسبية إلى 7%. يمكن للجهاز حصاد ما يصل إلى 1.3 لتر (أكثر من خمسة أكواب) من الماء يومياً لكل كيلوغرام من المادة.
رؤية “الاستقلال المائي”
يتمثل هدف ياغي النهائي في توفير “الاستقلال المائي” من خلال أجهزة لامركزية لا تعتمد على الشبكات العامة، مما يمنح الأفراد والمجتمعات السيطرة على إمدادات المياه الخاصة بهم.
يؤكد ياغي أن الغلاف الجوي يحتوي على خزان هائل من المياه القابلة لإعادة التدوير، يوازي تقريبا كمية المياه الموجودة في جميع أنهار وبحيرات العالم مجتمعة.
إن جهاز حصاد المياه هو التجسيد النهائي لقصة حياة ياغي، حيث يمثل القوس الكامل من معايشة مشكلة في طفولته في الأردن إلى ابتكار حلها العلمي والتكنولوجي كعالم رائد في كاليفورنيا.
التسويق التجاري
تنتقل هذه التكنولوجيا من المختبر إلى العالم الحقيقي من خلال شركات ناشئة شارك في تأسيسها، مثل “Atoco”، لتسويق أجهزة حصاد المياه واحتجاز الكربون.
هندسة مستقبل مستدام
إن التطبيقات المتنوعة للأطر الفلزية العضوية – من المياه والطاقة إلى المناخ والصحة – تظهر أن ياغي لم يخترع أداة لغرض واحد، بل منصة تكنولوجية متعددة الاستخدامات.
فمثلما كانت أشباه الموصلات أو البلاستيك مواد أساسية للقرن العشرين، يمكن أن تصبح الأطر الفلزية العضوية والأطر التساهمية العضوية مواداً تأسيسية للقرن الحادي والعشرين، قادرة على مواجهة مجموعة واسعة من التحديات الكبرى للبشرية.
- احتجاز الكربون: تتميز الأطر الفلزية العضوية بفعالية استثنائية في التقاط ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي أو من غازات المداخن الصناعية، مما يساعد على التخفيف من تغير المناخ.
- تخزين الطاقة النظيفة: المسامية العالية لهذه المواد تجعلها مثالية لتخزين أنواع الوقود النظيف مثل الهيدروجين والميثان بأمان وبكثافة عالية، وهو أمر حاسم لتطوير مركبات وأنظمة طاقة نظيفة.
- المعالجة البيئية والتحفيز: يمكن تصميم الأطر الفلزية العضوية لترشيح الملوثات مثل مواد PFAS الكيميائية من المياه، وإزالة المعادن الثقيلة، وتحليل الآثار الدوائية، والعمل كمحفزات عالية الكفاءة للتفاعلات الكيميائية.
- التطبيقات الطبية الحيوية: يتوسع المجال ليشمل تطبيقات واعدة في توصيل الأدوية، والاستشعار الحيوي، وعلاج السرطان.
جائزة نوبل (2025)
تُوجت مسيرة ياغي المهنية بجائزة نوبل في الكيمياء لعام 2025، تقديرا لعمله التأسيسي في مجال الأطر الفلزية العضوية. تلقى الخبر أثناء توقفه في مطار في طريقه إلى مؤتمر، ووصف اللحظة بأنها كانت “مذهلة”. تعترف الجائزة، التي تشاركها مع كيتاغاوا وروبسون، كيف أنهم “وضعوا قواعد جديدة” في الكيمياء.
مسيرة حافلة بالتقدير العالمي
قبل فترة طويلة من فوزه بجائزة نوبل، كان ياغي أحد أكثر الكيميائيين استشهادا بأبحاثهم في العالم، وكان اسمه يتردد باستمرار كمرشح قوي للجائزة. حصل على أكثر من 55 جائزة دولية كبرى.
متعدد الجنسيات
احتُفي بأعماله عالميا، وهو يحمل جنسيات متعددة: الأردنية بالميلاد، والأمريكية بالتجنيس، والسعودية بموجب أمر ملكي صدر عام 2021 تقديرا لمساهماته العلمية.
ويُنظر إليه كمصدر فخر للأردن وفلسطين والمملكة العربية السعودية والعالم العربي بأسره.
إن الاحتفاء بفوزه بجائزة نوبل في جميع أنحاء العالم العربي ومنحه الجنسية السعودية يسلط الضوء على دور العلم كمصدر للفخر الوطني والإقليمي. يُنظر إلى نجاحه ليس فقط كإنجاز شخصي، بل كرمز للبراعة الفكرية العربية على الساحة العالمية.
جدول: أبرز الجوائز والتكريمات للبروفيسور عمر ياغي
| السنة | الجائزة / التكريم | المؤسسة المانحة / الأهمية |
| 2025 | جائزة نوبل في الكيمياء | الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم (لتطوير الأطر الفلزية العضوية) |
| 2025 | جائزة فون هيبل | جمعية أبحاث المواد (MRS) (أعلى تكريم، لتأسيس الكيمياء الشبكية) |
| 2024 | جائزة بالزان | مؤسسة جائزة بالزان الدولية (لأبحاثه في المواد النانوية المسامية) |
| 2024 | جائزة تانغ في التنمية المستدامة | مؤسسة جائزة تانغ (للمواد المبتكرة في احتجاز الكربون وتخزين الطاقة وحصاد المياه) |
| 2024 | جائزة نوابغ العرب | متحف المستقبل (لمساهماته الاستثنائية في العلوم الطبيعية) |
| 2023 | وسام فيلهلم إكسنر | الرابطة الصناعية النمساوية |
| 2021 | جائزة فين فيوتشر | مؤسسة فين فيوتشر (للإنجازات المتميزة في المجالات الناشئة) |
| 2019 | جائزة غريغوري أمينوف | الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم (لتطوير الكيمياء الشبكية) |
| 2018 | جائزة وولف في الكيمياء | مؤسسة وولف (لريادته في الكيمياء الشبكية عبر الأطر الفلزية العضوية والتساهمية العضوية) |
| 2018 | جائزة حدود المعرفة لمؤسسة BBVA | مؤسسة BBVA (لتصور وتصنيع الأطر الفلزية العضوية والتساهمية العضوية) |
| 2018 | جائزة الأمير سلطان بن عبد العزيز العالمية للمياه | مركز الأمير سلطان لأبحاث البيئة والمياه والصحراء |
| 2018 | جائزة إيني (ENI) | شركة إيني (للتميز في مجال الطاقة) |
| 2017 | جائزة ألبرت أينشتاين العالمية للعلوم | المجلس الثقافي العالمي (لتأسيس مجال الكيمياء الشبكية) |
| 2015 | جائزة الملك فيصل العالمية في العلوم | مؤسسة الملك فيصل (لمساهماته التأسيسية في مجال الأطر الفلزية العضوية) |
| 2015 | جائزة المصطفى | مؤسسة المصطفى للعلوم والتكنولوجيا (في علوم وتكنولوجيا النانو) |
| 2010 | جائزة المئوية للجمعية الملكية للكيمياء | الجمعية الملكية للكيمياء |
| 2007 | ميدالية جمعية أبحاث المواد (MRS) | جمعية أبحاث المواد (لأبحاثه الرائدة في نظرية وتصميم وتصنيع وتطبيقات الأطر الفلزية العضوية) |
| 2007 | جائزة برنامج الهيدروجين لوزارة الطاقة الأمريكية | وزارة الطاقة الأمريكية (لمساهماته البارزة في تخزين الهيدروجين) |
| 2006 | ضمن “ألمع 10 علماء ومهندسين” | مجلة Popular Science |
