تُعدّ دولة قطر من دول المنطقة الأبرز التي حققت تقدما ملموسا في مجال حماية البيئة وجودة الهواء، إذ تبرز جهودها كقصة نجاح بيئية تستند إلى التزام عميق بتحقيق أهداف رؤية قطر الوطنية 2030، التي تضع جودة الحياة والاستدامة البيئية في صميم أولوياتها الوطنية.
ومن بين أبرز إنجازات الدولة في هذا المجال، تبرز وحدة رصد وتحليل بيانات جودة الهواء التابعة لوزارة البيئة والتغير المناخي، والتي تُعد نموذجا متقدما لاعتماد التكنولوجيا في خدمة البيئة وصحة الإنسان.
رصد دقيق وشامل على مدار الساعة
وتستخدم الوحدة أحدث التقنيات والبرمجيات المتطورة لرصد وتحليل جودة الهواء في مختلف أنحاء البلاد، حيث يتم جمع البيانات بشكل آني من أكثر من 45 محطة ثابتة ومتنقلة موزعة على المناطق السكنية والصناعية والعامة، بالإضافة إلى أجهزة مخصصة لقياس انبعاثات المركبات على الطرق.
وتعرض هذه البيانات عبر منصة إلكترونية متاحة للجمهور على الموقع الرسمي للوزارة، تظهر مؤشرات جودة الهواء في ثماني مناطق رئيسة باستخدام رموز لونية مبسطة وسهلة الفهم، ما يعزز من وعي المواطنين والمقيمين بمستوى جودة الهواء.
التزام دائم
أوضحت باحثة جودة الهواء في وزارة البيئة والتغير المناخي سارة مسعود مبارك، أن وحدة الرصد تعمل على مدار الساعة لجمع البيانات من مختلف المحطات في الدولة، مشيرة إلى أن مستويات جودة الهواء في قطر غالبا ما تكون “جيدة”، وتتراوح أحيانا إلى “مستوى طبيعي وأقل” خلال فترات العواصف الترابية، وهو أمر طبيعي في المنطقة.
وأضافت أن الوحدة تتابع بشكل يومي مكونات الهواء الأساسية وتركز على قياس نسب الملوثات الغازية والجسيمات الدقيقة، بهدف التأكد من عدم تجاوزها المعايير الوطنية والعالمية المعتمدة، بما يضمن بقاء الهواء ضمن الحدود الآمنة صحيا وبيئيا.
منصة إلكترونية وبيانات شفافة
وبفضل هذه المنظومة المتطورة، تتمكن الوزارة من تقديم بيانات دقيقة وموثوقة تُستخدم في تعزيز قدرات الإنذار المبكر، وصياغة السياسات البيئية المبنية على العلم والحقائق، بالإضافة إلى توعية الجمهور وتعزيز مشاركته في حماية البيئة.
وتظهر المؤشرات المنشورة عبر المنصة أن معظم الأيام تسجل مستويات هواء جيدة جدا، وهو ما يعكس فعالية السياسات البيئية والتدابير الوقائية التي تتبعها الدولة في مواجهة مصادر التلوث.
وفي الميدان، تمتد شبكة الرصد إلى عشرات المواقع المنتشرة في الدولة، حيث تغطي الأجهزة مناطق مختلفة لضمان مراقبة شاملة، كما تشمل أجهزة قياس دقيقة تعمل على تحليل الانبعاثات الناتجة عن حركة المركبات، وهي من بين مصادر التلوث الأكثر تأثيرا في المناطق الحضرية.
وتعد هذه الشبكة الواسعة أداة استراتيجية لتعزيز الرقابة البيئية، وتزويد الجهات المختصة ببيانات دقيقة لاتخاذ قرارات فعالة، سواء في حالات الطوارئ البيئية أو عند وضع الخطط طويلة الأمد.
ولا تقتصر جهود دولة قطر البيئية على مجرد رصد الواقع أو التفاعل مع التحديات البيئية عند وقوعها، بل تقوم على نهج استباقي شامل يدمج بين التخطيط المستقبلي والتنفيذ العملي والمشاركة المجتمعية، وذلك من خلال استراتيجيات واضحة ومبادرات متواصلة تؤسس لبيئة وطنية مستدامة قائمة على الابتكار والمسؤولية، بما ينسجم مع رؤيتها الوطنية 2030 ويواكب التحولات البيئية العالمية.
وتحرص الدولة على تحويل المفاهيم البيئية من إطارها النظري إلى ممارسات فعلية على الأرض، عبر توسيع رقعة المساحات الخضراء، وحماية التنوع البيولوجي، وتطوير البنية التحتية للرصد البيئي.
ويظهر ذلك جليا في المبادرات التي أطلقتها وزارة البيئة وتغير المناخ، وعلى رأسها مشروع زراعة 10 ملايين شجرة، ومشروع مراقبة جودة الهواء، إلى جانب برامج حماية الحياة الفطرية والبيئة الساحلية، ما يعكس إيمانا عميقا بضرورة التكامل بين التنمية والبيئة.
كما تعد شبكات رصد جودة الهواء المنتشرة في مختلف أنحاء الدولة من أبرز نماذج هذا التكامل، إذ تلعب دورا محوريا في تتبع ملوثات الهواء، وتحليل مستويات التلوث بشكل لحظي، وتقديم بيانات دقيقة إلى صناع القرار والجمهور على حد سواء.
جهود مكثفة
وأسهمت هذه الشبكات، التي تشمل أكثر من 45 محطة ثابتة ومتنقلة، في بناء منظومة وطنية دقيقة لرصد الهواء وتحديد مصادر الملوثات، مما عزز قدرة الدولة على وضع حلول بيئية قائمة على البيانات.
ولا يغيب الجانب المجتمعي عن هذه الجهود، حيث تنفذ الوزارة برامج توعوية وتثقيفية تستهدف مختلف فئات المجتمع، لتحفيز الأفراد والمؤسسات على تبني سلوكيات صديقة للبيئة. فالمسؤولية البيئية في قطر لم تعد حكرا على الجهات الحكومية، بل تحولت إلى ثقافة عامة يشارك فيها المواطن والمقيم، من خلال حملات التشجير، وإعادة التدوير، وترشيد استهلاك الموارد، وتعزيز حس الانتماء البيئي.
وتعكس المشاريع البيئية المشتركة مع المنظمات الدولية، مثل مبادرة “نوتاك” لمكافحة التلوث البلاستيكي، ومشاريع مراقبة الانبعاثات الإشعاعية، مكانة قطر كطرف فاعل ومؤثر في الجهود الإقليمية والعالمية لحماية البيئة. إذ تسعى الدولة إلى أن تكون منصة حوار وحلول بيئية، وليس فقط نموذجًا للتطبيق المحلي، بما يعزز من دورها في مواجهة القضايا الكونية كالتغير المناخي وفقدان التنوع البيولوجي.
وبهذا، تؤكد قطر أن الاستدامة البيئية ليست مسارا موازيا للتنمية، بل ركيزة أساس في بناء مستقبل متوازن يضمن جودة الحياة للإنسان، ويحمي النظام البيئي من الانهيار، ويؤسس لاقتصاد مرن قادر على التكيف مع التحولات الكبرى.
وبينما تواصل الدولة إطلاق مبادرات جديدة، فإن التحدي الأكبر يبقى في ترسيخ هذه الجهود كجزء من الهوية الوطنية، وثقافة مجتمعية دائمة، لا مجرد مشاريع عابرة.