عامان كاملان عاشهما قطاع غزة تحت نيران حرب مدمرة لم تبق شيئا ولم تترك مجالا للحياة، لكن الكارثة الحقيقية لم تكن فقط في القصف والدمار، بل في ما تبع ذلك من مجاعة شاملة وغياب للغذاء والدواء، حتى صار قاتلا صامتا لسكان القطاع.
في تقرير مؤلم، قارنت هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” بين صور لعدد من سكان قطاع غزة قبل الحرب الإسرائيلية وبعدها، لتحكي الصور ما مرّ على القطاع من مآسٍ، إذ شحبت الوجوه، وهزلت الأجساد، حتى أصبحت مجرد عظام ناتئة.
والأطفال الذين كانوا يلعبون صاروا بالكاد قادرين على الوقوف، والرجال الذين عرفوا بالقوة والصلابة خارت قواهم بفعل الجوع والمرض.

انهيار كامل
تقول “بي بي سي” في تقريرها، إن ما تم رصده ليس مجرد تغيُّر في الشكل، بل انهيار كامل في الصحة والحياة والكرامة، إذ لم يعد الجوع حالة مؤقتة؛ بل واقع يومي يلتهم الأطفال والكبار.
وتؤكد تقارير المنظمات الدولية أن ما يحدث في غزة لا يمكن اعتباره أزمة طارئة، بل هو جريمة عقاب جماعي مستمرة.
وأعلنت منظمة التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي في أغسطس الماضي، أن المجاعة باتت واقعا فعليا في مدينة غزة، مع توقعات بامتدادها إلى مناطق مثل دير البلح وخان يونس، مما يعني أن القطاع بأكمله مهدد بانهيار غذائي شامل.
مأساة جيل كامل
وسط هذا الواقع المأساوي، تعيش آلاف الأسر أوضاعا لا يمكن تصورها، في بيت صغير وسط مدينة غزة، تجلس هند عبد الله إلى جانب طفلتها البالغة من العمر عامين ونصف، والتي تعاني من هزال شديد، تقول هند والدموع في عينيها إنها لم تعد قادرة على توفير الحليب ولا حتى الطعام البسيط، وجسد طفلتها يذبل يوما بعد يوم، والمستشفيات مكتظة، ولا تتوفر فيها العلاجات أو الأدوية اللازمة.
وأضافت الأم أن الطفلة كانت تنمو بشكل طبيعي قبل الحرب، لكنها الآن لم تعد تتحرك كثيرا، ولا تستجيب مثل السابق.
هذه الشهادة ليست حالة استثنائية، بل واحدة من آلاف القصص التي تتكرر يوميا في القطاع، وتختصر بكلماتها البسيطة مأساة جيل كامل من الأطفال الذين يواجهون خطر الموت بسبب الجوع.
الجوع أو المرض
على الطرف الآخر من المدينة، يعيش الشاب محمود شبير معاناة مختلفة والذي يعاني من حساسية القمح ويحتاج إلى طعام خاص خال من الجلوتين، لكن هذه الأنواع من الأغذية اختفت تماما من الأسواق منذ بداية الحصار.
وقال محمود إنه بات أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن يجوع، أو أن يأكل طعاما يؤدي إلى مضاعفات صحية خطيرة قد تودي بحياته.
وأكد أنه لم يعد يستطيع شراء المنتجات البديلة، وإن وجدت فهي بأسعار لا يقدر عليها أحد، ومع اختفاء الغذاء المناسب، أصبحت صحته مهددة بشكل مستمر.
ومنذ مارس الماضي، أغلقت إسرائيل جميع المعابر المؤدية إلى قطاع غزة، مانعة دخول أي مساعدات إنسانية أو غذائية، في الوقت الذي تنتظر مئات الشاحنات المحملة بالمساعدات على الحدود، لكن لا يسمح لها بالدخول إلا بكميات محدودة جدا، لا تغطي حتى الحد الأدنى من حاجات السكان.
وتؤكد مصادر محلية أن عددا من الشاحنات تعرضت للسطو من عصابات محلية تنشط تحت حماية قوات الاحتلال، مما يحرم المحتاجين من المساعدات التي قد تنقذ حياتهم.
خطة ممنهجة
ويؤكد خبراء حقوق الإنسان أن سياسة التجويع الممنهجة التي يتعرض لها سكان القطاع ليست نتيجة جانبية للحرب، بل جزء من خطة مدروسة تهدف إلى إنهاك السكان ودفعهم إلى الاستسلام أو الفناء.
وأكدت وزارة الصحة في غزة، ارتفاع حالات الوفاة نتيجة الجوع، خصوصا بين الأطفال والمرضى وكبار السن، وأن الوضع يتدهور بسرعة خطيرة.
أما منظمة الأغذية والزراعة فأكدت أن أكثر من 320 ألف طفل في غزة دون سن الخامسة يعانون من سوء تغذية حاد، في حين يعاني ما يزيد عن 500 ألف إنسان من الجوع الكارثي. وتتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 640 ألفا إذا لم يتم إدخال مساعدات عاجلة خلال أسابيع.
في ظل هذا الواقع، يعيش سكان غزة على حافة الانهيار الكامل، لا طعام ولا دواء ولا أمل، أطفالهم يموتون في أحضان أمهاتهم، والآباء عاجزون عن توفير أبسط مقومات الحياة.
احصائيات صادمة
وفي وقت كتابة التقرير، اليوم الاثنين، السادس من أكتوبر لعام 2025، أفادت وزارة الصحة في قطاع غزة أن 21 شهيدا ارتقوا وأصيب 96 آخرين خلال الـ24 ساعة الماضية، فيما لا يزال عدد من الضحايا تحت الركام وفي الطرقات، حيث تعجز طواقم الإسعاف والدفاع المدني عن الوصول إليهم حتى اللحظة.
وارتفعت حصيلة العدوان الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر 2023، إلى 67,160 شهيدا و169,679 إصابة منذ السابع من أكتوبر للعام 2023م.
وبلغ عدد ما وصل إلى المستشفيات خلال الـ24 ساعة الماضية من الشهداء الذين سقطوا خلال محاولتهم الوصول إلى نقاط المساعدات شهيدين و 19 إصابة، ليرتفع إجمالي “شهداء لقمة العيش” ممن وصلوا المستشفيات إلى 2,610 شهيدا وأكثر من 19,143 إصابة.
وسجّلت وزارة الصحة في قطاع غزة خلال الـ24 ساعة الماضية حالة وفاة واحدة فقط، نتيجة المجاعة وسوء التغذية، ليرتفع إجمالي وفيات سوء التغذية إلى 460 شهيدا، من بينهم 159 طفلا.