عندما أخبروها بمقتل ابنها البالغ من العمر 19 عاما على يد مقاتلي حركة المقاومة الإسلامية حماس، منتصف ديسمبر الماضي، لم تكن مايان شيرمان، تشك في مصداقية رواية الجيش الإسرائيلي بشأن وفاة نجلها رون شيرمان الذي أسر خلال عملية طوفان الأقصى.
لكن مايان شيرمان بدأت -بالتعاون مع والد الجندي ميك بيزر الذي قتل هو الآخر في نفس الوقت- تحقيقا خاصا لمعرفة قاتل نجلها، وذلك بعد أن شككت تقارير الطب الشرعي في رواية الجيش بعدما لم يجد أي علامات للصدمة على رفات شيرمان.
ووفقا لتحقيق مطول نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” مطلع مايو الجاري، فقد قامت مايان شيرمان ووالدة الجندي الآخر بالتواصل مع ذوي الأسرى الآخرين، ثم قاموا بمسح مواقع التواصل الاجتماعي التابعة لحركة حماس، وبعدما أمطروا المسؤولين الإسرائيليين بالأسئلة.
ومع تمسك والدتي القتيلين بمعرفة حقيقة ما جرى لنجليهما، تمكنتا من الوصول إلى مكتب رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية وعقدتا اجتماعا مع كبار المسؤولين العسكريين الآخرين وصولا إلى رئيس دولة الاحتلال إسحاق هيرتسوغ.
في نهاية المطاف، انتزعت مايان شيرمان اعترافا من اثنين من كبار المسؤولين العسكريين بأن غارة جوية إسرائيلية استهدفت أحد قادة حماس في نوفمبر الماضي، وأدت إلى مقتل الجنديين.
وأبلغت شيرمان صحيفة “وول ستريت جورنال” بأنها كانت عازمة على معرفة الحقيقة حتى لو كانت هذه الحقيقة هي أن الجيش كان مضطرا لقتل الجنديين، وهو أمر لطالما أنكر القادة الإسرائيليون الاعتراف به.
إنكار رسمي
ولم يعترف المسؤولون العسكريون الإسرائيليون علنا بأن الجنديين الأسيرين قتلا في غارة جوية إسرائيلية على شمال غزة في نوفمبر الماضي، وقالوا إنهم قدموا كل المعلومات التي لديهم لعائلات الجنود.
وردا على أسئلة صحيفة وول ستريت جورنال حول مقتل الجنود، قال الجيش الإسرائيلي إنه “لم تكن لديه معلومات عن وجود أسرى في نفق قائد الفرقة الشمالية لحماس، لحظة شن الهجوم”.
ومنذ بدء الحرب، يواجه جيش الاحتلال اتهامات متزايدة بالتورط في قتل كثير من الأسرى الذين كانوا لدى فصائل المقاومة، والذين يمثلون أكبر ورقة ضغط بيد الفلسطينيين.
ويعتقد المسؤولون الأمريكيون أن بعض الأسرى قتلوا بالفعل بسبب غارات جوية إسرائيلية، حسب ما نقلته “وول ستريت جورنال” عن مصدر قريب من المخابرات المركزية الأمريكية.
لكن الإسرائيليين يواصلون رفع المسؤولية عن أنفسهم بحديثهم الدائم عن إحاطة قادة حماس أنفسهم بالأسرى، وهو ما لم تقدم تل أبيب أي دليل عليه بعد نحو 7 أشهر من الحرب.
وأجرت “وول ستريت جورنال” عشرات المقابلات مع ذوي الأسرى والأسرى الذين أطلق سراحهم خلال الصفقة السابقة أو لأسباب إنسانية، والتقت أيضا مسؤولين إسرائيليين وأمريكيين حاليين وسابقين وخبراء في الطب الشرعي وبعض العسكريين، وراجعت الوثائق الرسمية المحيطة بوفاة شيرمان وأسرى آخرين.
وأعلنت إسرائيل رسميا وفاة 46 من بين أكثر من 240 أسيرا تم احتجازهم يوم 7 أكتوبر، لكنها لم تسترد سوى جثث العشرات منهم. ويقدر بعض المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين سرا أن الرقم أعلى بكثير من المعلن.
وفي الوقت الذي تم فيه انتشال جثتي شيرمان وبيزر من غزة، قتل جيش الاحتلال ثلاثة أسرى تمكنوا من الفرار خلال المواجهات رغم أنهم كانوا يرفعون رايات بيضاء ويتحدثون بالعبرية
وقال الجيش في يناير الماضي، إن غارة جوية أصابت أهدافا قريبة من أسيرين أُعلن عن وفاتهما في وقت لاحق. وفي أبريل، قال إنه في خضم الفوضى التي أعقبت هجمات 7 أكتوبر، ضربت قواته سيارة تقل أسرى، مما أسفر عن مقتل إفرات كاتس، وهي امرأة إسرائيلية تبلغ من العمر 68 عاما.
بحث عن إجابات
ولا تزال عائلات الأسرى القتلى الآخرين تبحث عن إجابات واعترافات علنية بما حدث لذويهم منذ وقوعهم في الأسر، في ظل إصرار إسرائيلي رسمي على الترويج لروايات لا دليل عليها بشأن مسؤولية المقاومة عن قتل كثير من الأسرى.
وقتل جيش الاحتلال أكثر من 34 ألف فلسطيني خلال عدوانه على غزة، وأصاب ما يزيد عن 70 ألفا، وتحدثت الأمم المتحدة عن أكثر من 10 جثث تحت الأنقاض.
كان شيرمان متواجدا في كتيبة غزة عندما وقع الهجوم، وقد كتب لوالدته فور دخول مقاتلي المقاومة إلى القاعدة في الساعة 7:12 صباح الـ 7 من أكتوبر رسالة لوالدته كتب فيها: “إنهم هنا، هذا كل شيء. انتهى.”
بعد ذلك، جاءت أول إشارة إلى أن شيرمان وبيرز قد نجيا من الهجوم، وأظهر مقطع فيديو في وقت لاحق من ذلك اليوم مقاتلي حماس وهم يسحبون الأسيرين اللذين كانا يعملان في الخدمات اللوجستية للجيش، عبر فجوة في الجدار الخرساني إلى غزة.
بدأت عملية الاختطاف منذ أشهر حيث عاشت كلتا الوالدتين في حالة من عدم اليقين والأرق. لم يعرفوا سوى القليل عن مصير أبنائهم، أحياء أو أموات، آمنين أو غير آمنين. وكانوا يخشون وحشية حماس ومخاطر الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة.
في 5 نوفمبر، أخبر الجيش الإسرائيلي عائلات الأسيرين أن المسؤولين تلقوا إشارة تفيد بأنهما على قيد الحياة.
وقالت والدة بيزر، كاتيا بيزر، إنها كانت دائما خائفة من الغارات الإسرائيلية، وإنها سألت المسؤولين الإسرائيليين مرارا عن الطريقة التي يمكنهم بها التأكد من أن هذه الغارات لن تطال الأسرى.
ومطلع نوفمبر، نشرت كتائب القسام -الجناح العسكري لحماس- منشورا على وسائل التواصل الاجتماعي مكتوبا باللغتين العربية والعبرية يُظهر شيرمان وبيزر وأذرعهما مرفوعة خلف رأسيهما. وجاء في المنشور: “قصف شمال غزة يهدف إلى قتل أبنائكم الأسرى لدى المقاومة”.
وسألت والدة شيرمان الجيش عما إذا كانت الرسالة تعني أن الغارات الجوية الإسرائيلية أكثر خطرا على ابنها من حماس، لكن أحد الضباط نصحها بتجاهل المنشور الذي قال إنه حرب نفسية.
وقال لها الضابط في رسالة نصية اطلعت عليها “وول ستريت جورنال”: “لا يوجد تغيير في وضع رون.. عليك أن تتمسكي بالإيمان”.
شيء ما ليس صحيحا
وفي منتصف نوفمبر، طلب المسؤولون العسكريون من والدتي شيرمان وبيزر تقديم عينات من الحمض النووي. كما سأل المسؤولون عن الوشم والندبات والوحمات التي تحدد هوية الرجلين.
تقول والدة شيرمان إن هذه الأسئلة أشعرتها بأن شيئا ما ليس صحيحا يحدث، وإنها سألت الجيش إن كانوا سيبلغونها بوفاة ابنها، ليجيبها الضابط مجددا برسالة تقول: “لا يجب أن تشغلي نفسك بالأفكار السلبية.. نحن نفكر بطريقة إيجابية”.
في 15 ديسمبر طرق ضباط الجيش الإسرائيلي أبواب منزلي بيزر وشيرمان لإبلاغهما بأن ابنيهما قُتلا في الأسر. وقال مسؤولون عسكريون إن المواطن الفرنسي الإسرائيلي إيليا توليدانو، الذي أسر من مهرجان نوفا الموسيقي يوم 7 أكتوبر، عثر عليه ميتا في نفس النفق أسفل شمال غزة.
ولم تطرح شيرمان أي أسئلة أخرى في ذلك الوقت، ورفضت عرضا بإجراء تشريح كامل للجثة، على أمل الانتهاء من الجنازة، قائلة إنه “لم ترغب في معرفة ما فعلته حماس به”.
لكن والدة بيزر أرادت أن تعرف بالضبط كيف مات ابنها، فاختارت تشريح جثته. وفي يناير، قام قائد اللواء 551 في الجيش الإسرائيلي، الذي نفذ عملية منتصف ديسمبر التي انتشلت جثث الأسرى الثلاثة من غزة، بزيارة منزلي الوالدتين، وأحضر معه تقرير الطبيب الشرعي، وأبلغهما بأن الجيش “لا يستبعد مقتلهما في غارة جوية إسرائيلية”.
ودفعت هذه الأخبار المرأتين إلى البحث المحموم عن الإجابات، فبحثتا في أنواع مختلفة من القنابل، وقامتا بمسح تقارير علماء الأمراض وقرأتا مقالات طبية عن التحلل وتأثيرات الانفجارات.
وبعد أسابيع من الضغط على الجيش للحصول على إجابات، أخبر مسؤولان عسكريان إسرائيليان كبيران المرأتين بأن غارة جوية إسرائيلية قتلت نجليهما.
وقال أحد المسؤولين لشيرمان إن الغازات المنبعثة من انفجار القنبلة في نفق قريب قد خنقتهم على الأرجح.
عرض هذا المنشور على Instagram
تغيير تاريخ الوفاة
واعترف اللواء نيتسان ألون، الضابط الإسرائيلي المسؤول عن ملف الأسرى للأمهات في اجتماعات منفصلة في مكتبه بأن إبنيهما قُتلا “كنتيجة ثانوية” للهجوم.
وقال ألون إن الجيش لم يكن يعلم بوجود أسرى في النفق عندما شن الغارة التي استهدفت القيادي في حماس، أحمد غندور، قائد الجناح العسكري للحركة في شمال غزة، وأدت إلى استشهاده. كما أكد لهما المتحدث باسم الجيش دانييل هاغاري، أن الغارة الجوية كانت سبب الوفاة.
واعتقدت شيرمان أن الجيش أدرك الخطأ أخيرا. لكن المسؤولين الإسرائيليين واصلوا القول علنا إنه لا يمكن تحديد سبب وفاة الجنود. وعلى أمل العثور على حل، لا تزال العائلات تضغط على الحكومة لنشر النتائج التي توصلت إليها.
وقالت عائلتا الأسيرين القتيلين إن مسؤولين عسكريين إسرائيليين أخبروهما بأنهم ينتظرون نتائج تقرير السموم ليعلنوا بشكل نهائي وعلني كيف مات شيرمان وبيزر.
وقال الجيش الإسرائيلي إن ممثليه قدموا للعائلات جميع المعلومات التي تم التحقق منها والتي بحوزته، وزعم أنه لم يكن ممكنا تحديد سبب وفاة الرجلين بناءً على تقرير الحالة المرضية الأولي.
ووقعت الغارة الجوية المعنية في 10 نوفمبر، حيث أصابت نفقا أسفل مخيم جباليا للاجئين في شمال غزة. وأعلنت إسرائيل لأول مرة عن الغارة، التي قالت حماس فيما بعد إنها قتلت أحد قادتها، في 16 نوفمبر.
وقال مسؤولون وخبراء عسكريون إسرائيليون حاليون وسابقون إن القنابل التي تسقطها القوات الجوية الإسرائيلية وتنفجر تحت الأرض يمكن أن تطلق غازات يمكن أن تقتل دون أن تترك علامات الصدمة.
وأكد مسؤول عسكري إسرائيلي كبير أنه قبل الحرب، قام الجيش باختبار آثار أبخرة القنابل عندما تنفجر تحت الأرض، تحسبا لهجمات على أنفاق حماس.
تقول شيرمان إنها “تشعر بالخيانة من جانب حكومتها، لأن ابنها يطمح إلى أن يصبح جنديا مقاتلا لخدمة بلاده”، مضيفة “إذا فكرت في السيناريو الأسوأ لقتل إبن شخص ما، فأعتقد أن ما حدث هو الأسوأ على الإطلاق”.
أما بيزر، فتقول إنها تريد التحقيق في وفاة إبنها، لأنها تشعر أن تصرفات الحكومة تعرض الأسرى للخطر، مشيرة إلى أنها “تتفهم أن ما تفعله الآن لن يعيد لها إبنها للأسف”، لكنها تريد “منع وقوع الحادث التالي، بطريقة أو بأخرى”.
وتعلم الأمهات أنهن لا يستطعن تغيير التاريخ، لكنهن يرغبن في تغيير التواريخ الموجودة على شواهد قبور أبنائهن. وبدلاً من 14 ديسمبر 2023، وهو التاريخ الذي تم العثور فيه على جثتيهما، يردن أن يُكتب على شواهد القبور 10 نوفمبر 2023 ، يوم الغارة الجوية.
أضف تعليقا