يشهد العالم حاليا سباقا تكنولوجيا غير مسبوق بين الولايات المتحدة والصين في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI)، وهو سباق يتخذ ملامح “حرب باردة” جديدة ستعيد تشكيل الاقتصاد، والمجتمع، والجغرافيا السياسية العالمية.
وتتداخل في هذه المنافسة الحسابات الاقتصادية والعسكرية والأيديولوجية، إذ يراهن كل طرف على امتلاك مفاتيح المستقبل وتحديد من يضع قواعد الذكاء الاصطناعي العالمية.
الصين تلحق بالركب
وفي أوائل عام 2024، كانت شركات التكنولوجيا الصينية متأخرة وتعتمد على نماذج مفتوحة المصدر، وزادت القيود الأمريكية على تصدير شرائح الذكاء الاصطناعي المتقدمة من تعقيد الموقف.
ودفع هذا القلق قادة بكين إلى تكثيف الضغط على رؤساء الشركات. ففي ربيع عام 2024، تلقت إحدى الشركات الرائدة عشر مكالمات من وكالات حكومية مختلفة تحثها على تسريع تطوير نماذج محلية.
لم تكتفِ بكين بالضغط، بل خففت من اللوائح، وطرحت التمويل، وسارعت في تركيب قدرات حوسبة أكبر، وبعد تسعة أشهر، لفتت شركة صينية ناشئة تُدعى DeepSeek الأنظار بنموذج ذكاء اصطناعي قوي جديد، مما دفع رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ إلى القول: “أخيرا أصبح لدى الصين نموذج يمكن أن تفخر به”.
لماذا لا تزال أمريكا متفوقة؟
لا تزال الولايات المتحدة متقدمة بوضوح في إنتاج النماذج الأقوى والأكثر تطورا، يعود هذا التفوق إلى عاملين رئيسين:
- امتلاك الشرائح: القيود الأمريكية تعيق الصين عن مجاراة واشنطن في تصنيع الشرائح المتقدمة.
- القوة المالية: يمتلك المستثمرون الأمريكيون قوة مالية ضخمة، حيث موّلوا الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي بمبلغ 104 مليارات دولار في النصف الأول من عام 2025.
لكن الصين تستغل مزاياها التنافسية لتقليص الفجوة، وتشمل: العدد الهائل من المهندسين الأكفياء، وانخفاض تكاليف التشغيل، ونموذجا تنمويا تقوده الدولة يسمح بسرعة أكبر في الحركة.
وتسعى بكين إلى تسريع إنشاء مجمعات حوسبة ضخمة في مناطق مثل منغوليا الداخلية، مستفيدة من الطاقة الرخيصة المتوفرة من مزارع الطاقة الشمسية والرياح، وتضخ مئات المليارات من الدولارات لدعم تدريب الذكاء الاصطناعي.

سباق التسلح التكنولوجي والمخاطر الأيديولوجية
تتزايد المقارنات بين سباق الذكاء الاصطناعي الحالي والمنافسة الأمريكية – السوفييتية خلال الحرب الباردة لبناء الحواسيب لأغراض الدفاع، مع فارق أن الذكاء الاصطناعي يمتلك تطبيقات واسعة غير محدودة. فإذا تجاوز الذكاء الاصطناعي الذكاء البشري، فإنه سيمنح تفوقا علميا، واقتصاديا، وعسكريا لا يتزعزع للدولة التي تسيطر عليه.
في هذا السياق، يتجاهل القادة في كلا البلدين المخاوف المتعلقة بمخاطر النماذج القوية (مثل انتشار المعلومات المضللة وتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي فائقة الذكاء لا تتوافق مع القيم الإنسانية)، ويدفعون نحو التفوق.
وتتزايد التحذيرات في واشنطن من أن الذكاء الاصطناعي “السلطوي” في الصين سيقوّض التفوق التكنولوجي الأمريكي، بينما ترى بكين أن الفشل في مواكبة الذكاء الاصطناعي سيعرض صعودها كقوة عالمية للخطر.
ويؤكد الخبراء، مثل بول تريولو من مجموعة DGA-Albright Stonebridge، أن “تكاليف الحرب الباردة للذكاء الاصطناعي مرتفعة بالفعل، وسترتفع أكثر بكثير”، محذرا من أن عدم الثقة بين الطرفين يدفع السباق نحو أن يصبح “نبوءة تحقق ذاتها”، دون التزام بأي قيود.
الرؤية الصينية
وركزت خطة الصين لتطوير الذكاء الاصطناعي في عام 2017 على تطبيقات المراقبة. لكن ظهور ChatGPT أواخر 2022 أظهر أن الذكاء الاصطناعي يمكنه التأثير في نشر الأفكار والتلاعب بها.
وكان رد فعل بكين الأول هو الحذر، حيث فرضت قيودا شاملة على الصور المزيفة العميقة، ولوائح تفرض الرقابة على مخرجات النماذج التوليدية.
لكن خوف الصين من تفويت القفزة التكنولوجية الكبرى دفعها لتغيير سياستها، فبعد تشديد إدارة بايدن لقيود الشرائح، كثفت السلطات الصينية دعمها للمطورين عبر:
- تجميع مجموعات بيانات عامة للتدريب.
- إقامة أسواق لتبادل البيانات بين الهيئات والشركات.
- تنظيم عروض لجذب التمويل للشركات الناشئة.

DeepSeek غيّر موازين القوة
جاء الاختراق الصيني الكبير مطلع 2025 من شركة DeepSeek الممولة من القطاع الخاص (صندوق التحوط الذي أسسه ليانغ وينفنغ).
وبعد أن اقترب نموذجها R1 في الأداء من أفضل نماذج OpenAI بتكلفة أقل بكثير، عقد شي جين بينغ اجتماعا مع ليانغ وكبار التنفيذيين، مؤكدا أن عليهم التركيز على الذكاء الاصطناعي لأنه سيحدد قدرة الصين على المنافسة عالميا.
كان هذا الاجتماع شرارة دفعت شركات كبرى مثل Alibaba لإعلان استثمارات ضخمة، مما يشير إلى أن بكين لم تعد في موقع الدفاع. وفي المقابل، تدعو OpenAI إلى توجيه الموارد العالمية بعيدا عن المشاريع المدعومة صينيا نحو ذكاء اصطناعي ديمقراطي تشكله القيم الأمريكية.
التحدي الأكبر
يرى العاملون في الصناعة أن الصين قد تحتاج إلى عقد من الزمن لتصنيع شرائح تضاهي الأفضل في أمريكا، بسبب القيود الأمريكية الصارمة.
وأدى نقص قوة الحوسبة المتقدمة إلى تأخير الشركات الصينية، وللتغلب على ذلك، كثفت بكين جهودها لحشد أبطالها التكنولوجيين لبناء سلسلة توريد محلية لأشباه الموصلات.
وتضغط بكين على شركات مثل ByteDance لوقف شراء شرائح Nvidia والعمل مع بدائل صينية. وقد تعاونت Huawei مع آلاف الشركات المحلية لتطوير تقنيات أشباه الموصلات المتقدمة، وتخطط لمضاعفة طاقتها الإنتاجية للشرائح بحلول العام المقبل، في محاولة لتجاوز تفوق أمريكي يمتد لأكثر من نصف قرن.
ويؤكد الخبراء أن هذه الحرب الباردة لا تدور فقط حول من يملك الشريحة الأسرع، بل حول من يضع القواعد والأخلاق ويحتكر البنى الرقمية التي ستدير الاقتصاد العالمي.
وإذا استمر السباق دون إطار حوكمة دولي، فإن العالم يتجه نحو نظام ثنائي متوتر يمزق الفضاء الاقتصادي والمعلوماتي بدلا من تنظيمه، حيث سيجد بقية العالم نفسه مجبرا على الاصطفاف التقني والسياسي.

