عامان مرا على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023، والتي تسببت بدمار هائل وخسائر بشرية كبيرة ووصفت بأنها “الأكثر دموية في العصر الحديث”، في الوقت نفسه كشفت المؤشرات الاقتصادية الإسرائيلية عن الثمن الباهظ الذي دفعته “إسرائيل” جراء حربها.
وأظهرت المؤشرات مدى تأثير الحرب على معدل النمو الاقتصادي في “إسرائيل”، وسوق العمل والاستثمار، والمالية العامة، في حين أبدت بعض القطاعات الاستراتيجية قدرة على التكيف.
وشهد الاقتصاد الإسرائيلي خلال العام الجاري 2025، سلسلةَ صدمات اقتصادية حادة نتيجة تصعيد الحرب على غزة وتوسُّع تأثيراته الإقليمية، وتشير تقديرات رسمية وغير رسمية إلى أن الكلفة الإجمالية المباشرة وغير المباشرة للحرب بلغت مئات المليارات من الشواكل؛ ما انعكس في انكماش قطاعات أساسية، وتآكل الإيرادات الحكومية، وارتفاع الحاجة للصرف العسكري والطوارئ.
وأمام هذا الواقع، خفض بنك إسرائيل مجددا مطلع شهر أكتوبر الجاري، توقعاته لنمو الاقتصاد لعام 2025 إلى 2.5% فقط، وهو ما يعادل تقريبا نصف التوقعات المتفائلة الصادرة في أبريل 2024، التي كانت عند 5%.
في المقابل، يرى محللون أن النمو قد يكون أقل، ليتراوح بين 1% و2%، في ظل استمرار تبعات الحرب على مختلف القطاعات الاقتصادية، وفق صحيفة هآرتس الإسرائيلية.
وقدّر بنك إسرائيل الكلفة الإجمالية للحرب بنحو 330 مليار شيكل (100 مليار دولار)، محذرا مما يسميه تأثير “العدوى” الاقتصادية، أي الآثار طويلة الأمد التي قد تمتد إلى سنوات، مؤجلا أي قرارات بتخفيض الفائدة لتفادي تفاقم الضغوط المالية على الاقتصاد.
ويشير البنك إلى أن استمرار الحرب بعد عام 2026 سيؤدي إلى تفاقم الضرر الاقتصادي وإبطاء وتيرة الانتعاش، ما يجعل إدارة السياسات المالية والنقدية أكثر تحديا للحفاظ على استقرار الاقتصاد الإسرائيلي.
الخسائر وكلفة الحرب
اختلفت التقديرات الرسمية بشكل كبير، فقد قدّر وزير المالية المتطرف اليميني بتسلئيل سموتريتش تكلفة الحرب بنحو 300 مليار شيكل (89.4 مليار دولار)، بينما تحدث المحاسب العام ياهلي روتنبرغ عن 140 مليار شيكل (41.7 مليار دولار) حتى نهاية 2024، متوقعا أن تصل إلى 200 مليار شيكل (59.6 مليار دولار) مع نهاية 2025.
ووفق معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، تجاوزت الخسائر الاقتصادية المباشرة 60 مليار دولار، مع تقديرات إسرائيلية أخرى ترجح أن الرقم الحقيقي أكبر من ذلك بكثير، نتيجة امتداد تأثيرات الحرب إلى قطاعات رئيسة مثل العقارات، والتوظيف، والصناعة.
وأدت الحرب إلى زيادة ضخمة في النفقات الأمنية، التي تضاعفت منذ 2022 لتصل إلى 168 مليار شيكل (51.34 مليار دولار) في 2024، مع ارتفاع مذهل في تكاليف الاحتياط العسكري من أقل من ملياري شيكل (611.29 مليار دولار) عام 2022 إلى نحو 32 مليار شيكل (9.78 مليارات دولار) عام 2024.
الخسائر الكلية والآثار المباشرة
وتشير تقديرات بنك إسرائيل إلى أرقام إجمالية تقارب ما بين 250 و300 مليار شيكل (بين 76.41 مليار دولار و91.69 مليار دولار) حتى مراحل مبكرة من الحرب، تشمل النفقات العسكرية المباشرة، والأضرار في البنى التحتية، وفقدان النشاط الاقتصادي في قطاعات السياحة والتجارة والصناعة، ما يشكل ضغطا فوريا على الاحتياطات والقدرة المالية لإسرائيل.
على صعيد الميزانية العامة، صدق الكنيست في نهاية سبتمبر 2025، على تحويل 30 مليار شيكل (9.17 مليارات دولار) إضافية لوزارة الدفاع، بينما بلغت ميزانية 2025 نحو 786.7 مليار شيكل (240.45 مليار دولار)، منها 110 مليارات شيكل (32.8 مليار دولار) مخصصة لاحتياجات الجيش والعمليات العسكرية، مع رفع سقف العجز إلى 5.2% من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي سوق العقارات، برزت مؤشرات واضحة على التباطؤ، بل وبداية أزمة حقيقية؛ فقد أشار معهد ألروف لأبحاث العقارات في جامعة تل أبيب إلى انخفاضٍ بنسبة 24% في عدد صفقات بيع المنازل خلال الربع الثاني من عام 2025 مقارنة بالربع الأول (من 26.5 ألف إلى 20 ألف صفقة).
وبالمقارنة مع الفترة الموازية من 2024، فقد بلغ التراجع 35%، ويعد هذا القطاع من الركائز الأساسية للاقتصاد الإسرائيلي، ويسهم بنحو 6% من الناتج المحلي الإجمالي، ويوفر فرص عمل لعشرات الآلاف من الإسرائيليين، والعمال الأجانب، والفلسطينيين.
إلا أن الحرب أدت إلى نقصٍ يقارب 150 ألف عامل في هذا القطاع منذ السابع من أكتوبر 2023 بسبب منع دخول العمال الفلسطينيين، ما أدى إلى تباطؤ مشاريع البنية التحتية والعقارات وتراجع الاستثمارات المرتبطة بها.
وترك هذا التباطؤ في النشاط العقاري أثرا مباشرا على التضخم المالي وسعر الفائدة البنكية، وأدى إلى تآكل القدرة الشرائية للأجور وزيادة الأقساط الشهرية لقروض الإسكان، ما قلص من قدرة الأسر على شراء المساكن.
ووفق صحيفة غلوبز، يُتوقع أن تتباطأ وتيرة ارتفاع أسعار الشقق خلال عام 2026، ليس بسبب انخفاض الطلب، بل نتيجة ارتفاع التضخم ومعدلات الفائدة وتراجع السيولة في السوق.
وعلى صعيد الأجور وسوق العمل، أظهرت بيانات دائرة الإحصاء المركزية أن معدل الأجور في الاقتصاد الإسرائيلي بلغ 14 ألفا و201 شيكل (4340 دولارا)، بزيادة طفيفة نسبتها 2.5% مقارنة بعام 2024، ما يعكس تباطؤا في وتيرة نمو الأجور مقابل ارتفاع الأسعار.
وكشفت مصلحة التشغيل عن حالة من الجمود في عدد العاملين منذ مطلع 2025، إذ لم يسجل الاقتصاد نموا يتناسب مع زيادة عدد السكان، وبلغت نسبة البطالة 3% من إجمالي القوى العاملة، في حين وصل عدد العاطلين عن العمل 186.1 ألف شخص حتى نهاية أغسطس/آب 2025.
وخلال الشهر نفسه، تم تسريح نحو 4.3 آلاف شخص، وبلغ عدد المتقدمين للحصول على إعانات الدخل 38 ألف شخص، كما شهدت دائرة التوظيف ارتفاعا بنسبة 25.4% في عدد طالبي إعانات البطالة مقارنة بأغسطس/آب 2024، وارتفاعا بنسبة 5% في طلبات إعانات الدخل، ويعزى ذلك جزئيا إلى تطبيق بأثر رجعي لفترات التسريح المؤقت خلال الحرب مع إيران.
القطاعات الاستراتيجية المتضررة
- قطاع التكنولوجيا والابتكار: تعرض قطاع التكنولوجيا والابتكار في إسرائيل لضغوط كبيرة نتيجة الحرب، فقد شهدت الاستثمارات الأجنبية والصفقات الدولية تباطؤا ملحوظا، ما أثر على قدرة الشركات الناشئة على توسيع نشاطها وتمويل مشاريعها. وتسبب استدعاء قوات الاحتياط في نقص الكفاءات البشرية، وهذا أعاق سير الأعمال اليومية وأدى إلى تأجيل بعض المشاريع، وبالإضافة إلى ذلك، تأثرت صادرات التكنولوجيا بفعل الاضطرابات اللوجستية وانخفاض القدرة التشغيلية، ما قلّل من حصتها في الأسواق العالمية مؤقتا.
- قطاع الطاقة والغاز الطبيعي: شهد قطاع الطاقة والغاز الطبيعي كذلك تأثيرات مباشرة للحرب، فقد توقّف الإنتاج في بعض الحقول البحرية، كما تم تعليق الصادرات مؤقتا، ما أدى إلى خسائر مالية مباشرة وتأثيرات سلبية على ميزانية الدولة تقدر بعشرات مليارات الدولارات، وفق ما ذكرت صحيفة معاريف.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك خسائر التوريد إلى مصر والأردن، والتي أثرت على الإيرادات الحكومية، كما ترتبت تداعيات أمنية على مشاريع الغاز الإقليمية، وأصبح استمرار العمليات مرتبطا بالاستقرار الأمني، ما زاد من المخاطر التشغيلية والاستثمارية في هذا القطاع الحيوي. - السياحة: شهدت انهيارا حادا في أعداد الزوار وإيراداتها، وذكرت تقارير رسمية أن الخسائر المباشرة وغير المباشرة في القطاع بلغت ما يقارب 12 مليار شيكل (3.4 مليارات دولار)، مع انخفاض حاد في أعداد السياح والفعاليات الملغاة والذي أثر بشدة على وجهات مثل إيلات والقدس المحتلة، وفق رصد صحيفة كلكاليست.
- قطاع الطيران: غيرت الحرب خريطة الطيران في إسرائيل بشكل جذري، وشهد نشاط شركات الطيران المحلية ارتفاعا ملحوظا على حساب المنافسين الأجانب.
وتضاعفت حصة الشركات الإسرائيلية في مطار بن غوريون تقريبا، من 32.3% إلى 61% من إجمالي الحركة الجوية، وهو ما يعكس مدى العزلة والمقاطعة الدولية لإسرائيل في قطاع الطيران، بحسب صحيفة ذا ماركر. - تدفق الاستثمارات والعزلة الاقتصادية: زادت الحرب من المخاطر على المستثمرين، وأدت إلى إلغاء فعاليات ومؤتمرات دولية وتقلُّص حركة السياحة التجارية، وفي الوقت نفسه حافظت استثمارات كبيرة ومشتركات استراتيجية (وخاصة في الأمن السيبراني والطاقة) على مستوى من النشاط، والنتيجة عزلة اقتصادية نسبية في الكثير من القطاعات.
ويشهد الاقتصاد الإسرائيلي منذ بداية الحرب إلغاء وتأجيل الاستثمارات الأجنبية، ما يعني خسارة مليارات الدولارات التي كانت تنتظر ضخها في السوق الإسرائيلي، بحسب صحيفة يديعوت أحرونوت.
وأدت الحرب إلى إلغاء أو تأجيل عقود سياحية، ومؤتمرات دولية، وبعض الترتيبات التصديرية، كما ألحقت أضرارا بالثقة التجارية في قطاعات حساسة، وفي المقابل ظهرت صفقات طاقة واستثمارات كبرى تمّت أو تفاوضت عليها لاحقا، ما يجعل الصورة مركبة بين خسائر فورية وفرص انتقالية في قطاعات محددة. - إلغاء صفقة الأسلحة مع إسرائيل: شهدت الصناعات العسكرية الإسرائيلية صدمات كبيرة نتيجة الحرب في غزة، إذ ألغت دول عدة عقود أسلحة مع تل أبيب أو أوقفتها مؤقتا، وفق ما أفادت صحيفة كلكاليست، ومن أبرزها:
– ألغت إسبانيا عقود أسلحة بقيمة تصل إلى 1.35 مليار دولار، شملت أنظمة تصويب، مشروع راجمات صواريخ، صفقة مضادة للدبابات، وعقد ذخيرة من نوع 9 مليمترات.
– ألغت أو جمدت صفقات أسلحة مع إسرائيل دول أخرى مثل كولومبيا، واليابان، وهولندا وبلجيكا، ما أدى إلى حالة من القلق في أوساط شركات الصناعات العسكرية المحلية، ونتيجة لهذه القرارات، تكبدت هذه الشركات خسائر تقدر بمئات الملايين من الدولارات.
وفي عام 2024، حققت إسرائيل مبيعات أسلحة بقيمة 14.8 مليار دولار، نصفها تقريبا موجهة إلى الأسواق الأوروبية، غير أن استمرار العزلة الاقتصادية والسياسية على المستوى الدولي قد ينعكس سلبا على حجم الصادرات الدفاعية في السنوات المقبلة.
ويتوقع محللون أنه إذا استمر الوضع الحالي، سيبدأ انخفاض واضح في صادرات الدفاع بحلول عام 2026، مع توقع ضربة موجعة لهذه الصادرات عام 2027، ما يعكس حجم التأثير الطويل الأمد للحرب على القطاع الدفاعي الإسرائيلي.
المصدر: الجزيرة + وكالات